من كتب الامام ابن القيم "الرّوح هَل تَمُوت أم الْمَوْت للبدن وَحده"

0


اختلف النَّاس فِي هَذَا فَقَالَت طَائِفَة تَمُوت الرّوح وتذوق الْمَوْت لِنَّهَا نفس وكل نفس ذائقة الْمَوْت
قَالُوا وَقد دلّت الْدِلَّة على أَنه لَ يبْقى إِلَّ الله وَحده قَالَ تَعَالَى )كل من عَلَيْهَا فان وَيبقى وَجه رَبك ذُوالْجلَل وَالْكْرَام( وَقَالَ تَعَالَى )كل شَيْء هَالك إِلَّ وَجهه( قَالُوا وَإِذا كَانَت الْمَلَئِكَة تَمُوت فالنفوس البشرية أولى بِالْمَوْتِ قَالُوا وَقد قَالَ تَعَالَى عَن أهل النَّار أَنهم قَالُوا )رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ( فالموتة الِولى هَذِه المشهودة وَهِي للبدن وَالْخْرَى للروحوَقَالَ آخَرُونَ لَ تَمُوت الْرْوَاح فَإِنَّهَا خلقت للبقاء وَإِنَّمَا تَمُوت الْبدَان قَالُوا وَقد دلّت على هَذَا الْحَادِيث الدَّالَّة على نعيم الْرْوَاح وعذابها بعد الْمُفَارقَة إِلَى أَن يرجعها الله فِي أجسادها وَلَو مَاتَت الْرْوَاح لنقطع عَنْهَا النَّعيم وَالْعَذَاب وَقد قَالَ تَعَالَى )وَلَ تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم( هَذَا مَعَ الْقطع بِأَن أَرْوَاحهم قد فَارَ قت أَجْسَادهم وَقد ذاقت الْمَوْتوَالصَّوَاب أَن يُقَال موت النُّفُوس هُوَ مفارقتها لِجسادها وخروجها مِنْهَا فَإِن أُرِيد بموتها هَذَا الْقدر فَهِيَ ذائقة الْمَوْت وَإِن أُرِيد أَنَّهَا تعدم وتضمحل وَتصير عدما مَحْضا فهى لَ تَمُوت بِهَذَا الِعْتِبَار بل هِيَ بَاقِيَة بعد خلقهَا فِي نعيم أَو فِي عَذَاب كَمَا سيأتى ان شَاءَ الله تَعَالَى بعد هَذَا وكما صرح بِهِ النَّص انها كَذَلِك حَتَّى يردهَا الله فِي جَسدهَا وَقد نظم أَحْمد بن الْحُسَيْن الكندى هَذَا الِخْتِلَف فِي قَوْله:
تنَازع النَّاس حَتَّى لاتفاق لَهُم ... إِلَّ على شجب وَالْخلف فِي الشجب
فَقيل تخلص نفس الْمَرْء سَالِمَة ... وَقيل تشرك جسم الْمَرْء فِي العطب
فَإِن قيل فَعِنْدَ النفخ فِي الصُّور هَل تبقى الْرْوَاح حَيَّة كَمَا هِيَ أَو تَمُوت ثمَّ تحيا قيل قد قَالَ تَعَالَى وَنفخ فِي الصُّور ف صعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الِرْض إِلَّ من شَاءَ الله فقد اسْتثْنى الله سُبْحَانَه بعض من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الِرْض من هَذَا الصَّعقفَقيل هم الشُّهَدَاء هَذَا قَول أَبى هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَيروَقيل هم جِبْرَائِيل وَ مِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت وَهَذَا قَول مقَاتل وَغَيرهوَقيل هم الَّذين فِي الْجنَّة من الْحور الْعين وَغَيرهم وَمن فِي النَّار من أهل الْعَذَاب وخزنتها قَالَه أَبُوإِسْحَق بن شاقلَ من أَصْحَابنَاوَقد نَص الْامَام أَحْمد على أَن الْحور الْعين والولدان لَ يمتن عِنْد النفخ فِي الصُّور وَقد أخبر سُبْحَانَه أَن أهل الْجنَّة )لَ يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّ الموتة الِولى( وَهَذَا نَص على أَنهم لَ يموتون غير تِلْكَ الموتة الِولى فَلَو مَاتُوا مرّة ثَانِيَة لكَانَتْ موتتان وَأما قَول أهل النَّار )رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ( فتفسير هَذِه الْيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة وَهِي قَوْله تَعَالَى )كَيفَ تكفرون بِاللَ وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ( فَكَانُوا أَمْوَاتًا وهم نطف فِي أصلَب آبَائِهِم وَفِي أَرْحَام أمهاتهم ثمَّ أحياهم بعد ذَلِك ثمَّ أماتهم ثمَّ يحييهم يَوْم النشور وَلَيْسَ فِي ذَلِك اماتة أَزوَاجهم قبل يَوْم الْقِيَامَة وَإِلَّ كَانَت ثَلَث موتات وصعق الْرْوَاح عِنْد النفخ فِي الصُّور وَلَ يلْزم مِنْه مَوتهَا فَفِي الحَدِيث لصحيح ان النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة فَأَكُون أول من يفِيق فَإِذا مُوسَى آخذ بقائمة الْعَرْش فَلَأدرى افاق قبلى أم جوزى بصعقة يَوْم الطّور. فَهَذَا صعق فِي موقف الْقِيَامَة إِذا جَاءَ الله تَعَالَى لفصل الْقَضَاء وأشرقت الِرْض بنوره فَحِينَئِذ تصعق الْخَلَئق كلهم ق الَ تَعَالَى )فذرهم حَتَّى يلَقوا يومهم الَّذِي فِيهِ يصعقون( وَلَو كَانَ هَذَا الصَّعق موتا لكَانَتْ موتَة أُخْرَى وَقد تنبه لهَذَا جمَاعَة من الْفُضَلَء فَقَالَ أَبُو عبد الله القرطبى ظَاهر هَذَا الحَدِيث ان هَذِه صعقة غشى تكون يَوْم الْقِيَامَة لصعقة الْمَوْت الْحَادِثَة عَن نفخ الصُّور قَالَ وَقد قَالَ شَيخنَا أَحْمد بن عَمْرو وَظَاهر حَدِيث النَّبِي يدل على أَن هَذِه الصعقة إِنَّمَا هِيَ بعد النفخة الثَّانِيَة نفخة الْبَعْث وَنَصّ الْقُرْآن يقتضى أَن ذَلِك الِسْتِثْنَاء إِنَّمَا هُوَ بعد نفخة الصَّ عق وَلما كَانَ هَذَا قَالَ بعض الْعلمَاء يحْتَمل أَن يكون مُوسَى مِمَّن لم يمت من الْنْبِيَاء وَهَذَا بَاطِل وَقَالَ القَاضِي عِيَاض يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهَذِهِ صعقة فزع بعد النشور حِين تَنْشَق السَّمَوَات وَالْرْض قَالَ فتستقل الْحَادِيث والْ ثَار ورد عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاس القرطبى فَقَالَ يرد هَذَا قَوْله فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنه حِين يخرج من قَبره يلقى مُوسَى آخِذا بقائمة الْعَرْش قَالَ وَهَذَا إِنَّمَا عِنْد نفخة الْفَزع قَالَ أَبُو عبد الله وَقَالَ شَيخنَا أَحْمد بن عَمْرو الَّذِي يزيح هَذَا الشكال إِن شَاءَ الله تَعَالَى ان الْمَوْت لَيْسَ بِعَدَمِ مَحْض وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَال من حَال إِلَى حَال وَيدل على ذَلِك أَن الشُّهَدَاء بعد قَتلهمْ وموتهم أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين مستبشرين وَهَذِه صفة الْحْيَاء فِي الدُّنْيَا وَ إِذا كَانَ هَذَا فِي الشُّهَدَاء كَانَ الْنْبِيَاء بذلك أَحَق وَأولى مَعَ أَنه قد صَحَّ عَن النَّبِي أَن الِرْض لَ تَأْكُل أجساد الْنْبِيَاء وَأَنه اجْتمع بالِنبياء لَيْلَة الْسْرَاء فِي بَيت الْمُقَدّس وَفِي السَّمَاء وخصوصا بمُوسَى وَقد أخبر بِ أَنَّه مَا من مُسلم يسلم عَلَيْهِ إِلَّ رد الله عَلَيْهِ روحه حَتَّى يرد عَلَيْهِ السَّلَم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يحصل من جملَته الْقطع بِأَنأَمُوت لِنبياء إِنَّمَا هُوَ رَاجع إِلَى أَن غَيَّبُوا عَنَّا بِحَيْثُ لَ ندركهم وَإِن كَانُوا موجودين جَاءُوا ذَلِك كالحال فِي الْمَلَئِكَة فَإِنَّهُم أَحيَاء موجودون وَلَ تراهم وَإِذا تقرر أَنهم أَحيَاء فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الصَّعق صعق كل من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الِرْض إِلَّ من شَاءَ الله فَأَما صعق غير الْنْبِيَاء فموت وَأما صعق الْنْبِيَاء ف الْظْهر أَنه غشية فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الْبَعْث فَمن مَاتَ حى وَمن غشى عَلَيْهِ أَفَاق وَلذَلِك قَالَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته فَأَكُون أول من يفِيق فنبينا أول من يخرج من قَبره قبل جَمِيع النَّاس إِلَّ مُوسَى فَإِنَّه حصل فِيهِ تردد هَ ل بعث قبله من غَشيته أَو بقى على الْحَالة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قبل نفخة الصَّعق مفيقا لِنَّه حُوسِبَ بصعقة يَوْم الطّور وَهَذِه فَضِيلَة عَظِيمَة لمُوسَى وَلَ يلْزم من فَضِيلَة وَاحِدَة أفضليته على نَبينَا مُطلقًا لِن الشَّيْء الجزئي لَ يُوجب أمرا كليا انْتهىقَالَ أَبُو عبد الله الْقُرْطُبِيّ ان حمل الحَدِيث على صعقة الْخلق يَوْم الْقِيَامَة فَلَ إِشْكَال وَإِن حمل على صعقة الْمَوْت عِنْد النفخ فِي الصُّور فَيكون ذكر يَوْم الْقِيَامَة يُرَاد بِهِ أَوَائِله فَالْمَعْنى إِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الْبَعْث كنت أول من يرفع رَأسه فَإِذا مُوسَى آخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش فَلَ أدرى أَفَاق قبلى أم جوزى بصعقة الطّورقلت وَحمل الحَدِيث ع لى هَذَا لَ يَصح لِنَّه ترد هَل أَفَاق مُوسَى قبله أم لم يصعق بل جوزى بصعقة الطّور فَالْمَعْنى لَ أدرى أصعق أم لم يصعق وَقد قَالَ فِي الحَدِيث فَأَكُون أول من يفِيق وَهَذَا يدل على أَنه يصعق فِيمَن يصعق وان التَّرَدُّد حصل فِي مُوسَى هَل صعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ الصعقة الِولى وَهِي صعقة الْمَوْت لَكَانَ قد جزم بِمَوْتِهِ وَتردد هَل مَاتَ مُوسَى أم لم يمت وَهَذَا بَاطِل لوجوه كَثِيرَة فَعلم أَنَّهَا صعقة فزع لصعقة موت وَحِينَئِ ذ فَلَ تدل الْيَة على أَن الْرْوَاح كلهَا تَمُوت عِنْد النفخة الِولى نعم تدل على أَن موت الْخَلَئق عِنْد النفخة الِولى وكل من لم يذقْ الْمَوْت قبلهَا فَإِنَّه يذوقه حِينَئِ ذ وَأما من ذاق الْمَوْت أَو من لم يكْتب عَلَيْهِ الْمَوْت فَلَ تدل الْيَة على أَنه يَمُوت موتَة ثَانِيَة وَالله أعلم.__

0 التعليقات: